الخطبةُ الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومِنْ َسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلي الله عليه وعلى آله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ إبليس عليه لَعَائِنُ الله لبَّسَ على طوائف من الخَلق فخرجوا على عليٍّ رضي الله تبارك وتعالى عنه وكَفَّرُوه وقاتلوه وقتلوه، وفي المقابل لبَّس على طوائف من الخَلق غالوا في علي رضي الله عنه فادَّعى منهم أقوامٌ أنَّه الله, وادَّعى منهم أقوامٌ أنَّه نبي, وادَّعى فيه منهم مَنْ ادَّعى أقوالاً لا نُضَيِّعُ الزمان في سردها.
وعَصَمَ الله أهل السُّنَّة؛ فكانوا على الوَسَطِ الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى لهم؛ فأحَبُّوا آل البيت, ووالوا آل البيت, ولم يُنزلوهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله تبارك وتعالى فيها، فعصمهم الله رب العالمين باتِّباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الإفراط والتفريط, والغلو والجفاء معًا.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخطب على المنبر يومًا فجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما يتعثر, فنزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المنبر فحَمَلَهُ وصَعِدَ به المنبرَ, وأجلسه, وقال: (إنَّ ابني هذا سيدٌ, وعسى الله أنْ يُصلح به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين), فكانت نبوءةً من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نطق بها بالوحي المعصوم, ووقع الأمر كما أخبر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عام الجماعة لما بُويع للحسن رضي الله عنه بالخِلافة, وأرادَ معاويةُ رضي الله عنه أنْ يُصالحه وأن يشترط, فنزل له عن الخلافة واستقام الأمر, واجتمع المسلمون فسُمِّيَ العامُ (عامَ الجماعة).
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أنَّ حسنًا وحُسينًا سيدا شباب أهل الجنة, وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحمل الحسن ويقول: (اللهم إني أُحبُّه فأَحِبَّه).
ومَضَت الأيام وتعاقبت السنون ووقع بين المسلمين ما وقع، وعصم الله من الوقوع في الفتنة من عصم, واستقام الأمر في عام الجماعة.
فلمَّا قضَى معاوية رضي الله عنه ومضى إلى ربه بُويع ليزيد في شهر رجب - وكان على رأس الرابعة والثلاثين من عمره - بُويع له بالخلافة - وقد وُلِدَ سنة ستٍ وعشرين من الهجرة - فبايعه من بايعه, وامتنع عن البيعة عبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما.
ثمَّ إنَّ أهل الكُوفة لمَّا عَلِمُوا أنَّ حُسينًا رضي الله عنه امتنعَ عن البيعةِ ليزيد راسلُوه، فتواتر الطَّوَامِيرُ - أي: الصحف - بالبيعة للحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه مع دعوتهِِ إلى الخروج إليهم من أجل أن يصير الأمر إلى نِصَابِهِ الذي كان ينبغي أنْ يكون فيه - كما يدَّعُون! -.
وأمّا الحُسين رضي الله عنه فإنَّه أوفَدَ مُسْلِمَ بن عَقِيل بن أبي طالب لكي يَأخُذَ له البيعةَ من أهل الكوفة, ومن أجل أن يرى الأحوال عِيَانًا, وتهافت النَّاسُ على مُسْلِمٍ رحمه الله تعالى بالبيعة للحُسين رضي الله عنه, فجاءهُ اثنا عشرَ ألفًا يُبايعونه - يبايعون الحسين بن علي -, ويعاهدونه على المنافحةِ دونه بالدماء والأموال, ثمَّ تهافتوا حتى صاروا ثمانيةَ عشرَ ألفاً، وأرسل مُسْلِمٌ حين ذلك إلى الحُسين رضي الله عنه أنَّ الأمر قد استَتَبَّ فاخرج إليهم؛ فخرج رضي الله عنه بِثِقْلِهِ وبحَشَمِهِ وأزواجه وأولاده - رضي الله تبارك وتعالى عن آل البيت أجمعين - خرج يوم التَّروِيَة لسَنَةِ ستين من الهجرة.
فلمَّا عَلِمَ بخروجه عبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما تَعَلَّقَ به وقال: (لولا أنَّهُ يُزرِي بي وبك لَتَشَبَّثْتُ برأسك ولم أدَعْك تخرج, ولكن إنْ كنت لابد فاعلًا فدَع أهلك وذراريك ونساءك واخرج - إن خرجت - وحدك؛ فإن أهل العراق أهل غدر, وقد رأيت ما فعلوا بأبيك وأخيك من قبل؛ فلا تخرج إليهم).
قال: (انظر هذه الطَّوَامِير - أي: الصحف -), وفيها ما فيها من كلامهم باستقدامهم إيّاه، ومعاهدته على النصر والدفاع دونه حتى الموت.
فقالَ: (إنْ كانوا قدْ دَعوك وقد عزلوا واليهم وضبطوا أمورهم ثم استقدموك من أجل أنْ يُوَلُّوك والأمر جميعٌ فاخرج إليهم، وإلا فلا تخرج).
فأبى الحُسين رضي الله عنه إلا الخروج وكان أمرُ الله قَدَرًا مقدورًا.
ولمَّا عَلِمَ عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما بخروج الحُسين - وكان بمكة - سار إليه فَلَحِقَ به على مسافة ثلاثة أيامٍ سيرًا, فقال له ما قال وراجعه, وأَبَى الحُسين رضي الله عنه إلا الخروج، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (إنَّكم بَضْعَةٌ من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وإنَّ الله ربَّ العالمين قد عَرَضَ على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا الأمر - يعني: المُلك - فأباه صلى الله عليه وسلم, فوالله! لا تكونُ فيكم أبداً فارجع).
فأبَى إلا الخروج وكان أمرُ الله مفعولًا.
فخرج الحُسين رضي الله عنه إلى أهل الكوفة بموعدَتِهِم واستقدامِهِم وعهودِهِم.
وأهل الكُوفة من الروافض كما قال البغدادي في ((الفَرْقِ بين الفِرَقِ)) قال: (إنَّ الروافض من أهل الكُوفة هم أغدر الناس وأبخل الناس حتى صاروا مثلاً، يُقال: أغدرُ من كُوفي, ويُقال: أبخلُ من كوفي).
وقد استبان أمرُهم في مواضع منها: أنَّهم لمَّا بايعوا الحسن رضي الله عنه, وخرج رضي الله عنه بمَنْ معه لقتال معاوية رضي الله عنه غَدَرُوا به - أي: بالحسن رضي الله عنه -, لمَّا بايعوا الحسن بن علي وسار لقتال معاوية غدروا به, وضربه من ضربه منهم في جنبه حتى ألقاه، وغدروا به عند سَابَاطِ المدائن فهذا أول الغدر.
ثمَّ غدروا بالحسين رضي الله عنه فبايع مُسْلِمَ بن عَقِيلٍ - رضي الله عنه ورَحِمَه - بايعه ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم, وكان على الكوفة في ذلك الوقت النُّعمانُ بن بَشِيرٍ رضي الله عنه, وكان حليمًا نَاسِكًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلمَّا عَلِمَ بما يجري هنالك من أمر البيعة وما هنالك من الرِّيبة خطب الناس, فأَعلَمَهُم أنَّه لا يأخذ أحدًا بالظِّنَّةِ, ولكن إنْ خرجوا على إمامهم فإنَّه سَيُعْمِلُ السيف في رقابهم, ولكن لا يأخذُ أحدًا بِظِنَّة, وكانَ حليمًا ناسكًا رضي الله عنه.
فعزله يزيد وضمّ الكوفة إلى البصرة؛ فجمعهما معًا لعُبَيد الله بن زياد - عامله الله بعدله - وكان ظلومًا غشومًا، فلمَّا تولى أمرَ الكوفة مع أمرِ البصرة جاء الكوفةَ فمازال في الفَتْشِ والبحثِ والتنقيبِ؛ فانفضَّ أهلُ الكوفة عن مُسْلِمٍ حتى أَسْلَمُوهُ, وحتى صار طريدًا شريدًا فَقُتِلَ.
قُتِلَ مُسْلِمٌ رحمه الله تعالى يومَ عرفة, وكان قد أرسلَ قبل ذلك إلى الحُسين ليخرج لأهل الكوفة؛ فإنّهم على قلب رجلٍ واحد كما أَوهَمُوه, وكما ادَّعَوا!
فجاء كتابَهُ الحُسينَ رضي الله عنه فجمع أهلَه وذريته, وأخذ حَشَمَه وخرجَ رضي الله عنه يوم التَّروِيَةِ من سَنَةِ ستين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، وقُتِلَ مُسْلِمٌ يومَ عَرَفَة من ذات السَّنَة في اليوم الثاني لخروج الحُسين رضي الله عنه.
والنَّاسُ في أمرِ الحسين طَرَفَان ووسط: فَطَرَفٌ هم النَّوَاصب مِنْ قَتَلَةِ الحُسين ومِنْ مُبْغِضِي آل البيت يقولون: إنَّ الحُسين قد قُتِلَ بحق، وقد خرجَ على الإمام خروجًا لا ينبغي له أن يخرجه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول - كما يقولون - والحديث عند مسلم في الصحيح: (من جاءكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريد أن يَشُقَّ العصا فاقتلوه كائِنًا من كان) معنى الحديث.
قالوا: فقد قُتِلَ الحسين بحق.
وهم لا يُحبُّون الحسين ولا عليًّا ولا آل البيت, بل إنّهم يُظهرون السرور لمقتله رضي الله عنه, فهذا طَرَف.
وطَرَفٌ آخر يقولون: إنَّهُ كان إمامَ الوقت وكان مُتَوَلِّيًا، وكان هو الذي بيده أَزِمَّةُ الأمور, فإنَّه يعقد الرَّايات لأهل الجهاد, ويُولِّي من يُولِّي من العُمَّال, ولا يُصَلَّى إلا خلف من وَلَّاه - رضي الله عنه -.
وهذا خطأ؛ فإنَّ الحُسين لم يكن مُتَوَلِّيًا رضي الله عنه وعن آل البيت أجمعين فهذا طرف.
طَرَفٌ قد أفرطَ فيه جدًّا, وطَرَفٌ فرَّطَ في أمرهِ جدًّا, وأمَّا أهل السُّنَّة فإنهم يقولون: إنَّ الحُسين رضي الله عنه قد قُتِلَ شهيدًا مظلومًا, وإنَّهُ رضي الله عنه لمَّا أنْ حُوصِرَ ولمَّا أنْ جَدَّ الجِدُّ وانفضَّ عنه الناس - رضي الله عنه وعن آل البيت أجمعين - طَلَبَ من عُمَر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه - وكان ابن زياد قد أرسله في جيشٍ لمقاتلة الحسين أو الإتيانِ به - فلمَّا جدَّ الجِدُّ قال الحسين: إمَّا أنْ تدعوني كي أرجعَ إلى المدينةِ من حيث خرجت, وإمَّا أنْ تدعوني حتى أذهبَ إلى يزيد فأضعَ يدي في يده, وإمَّا أنْ تدعوني حتى أذهبَ إلى ثَغْرٍ من ثُغُورِ المسلمينَ فَأُرَابِطَ هنالك مجاهدًا في سبيل الله.
وأَبَوا عليه إلا أن يَسْتَأسِرَ لهم - ولم يكن ذلك واجبًا عليه -، وأَبَوا عليه إلا أنْ يضعَ يدَه في يد ابن زياد, وأن يصير أمرُه إليه؛ فأَبَى رضي الله تبارك وتعالى عنه, فقتلوه, فَقُتِلَ مظلومًا شهيدًا رضي الله عنه.
فأهل السُّنَّة يقولون: إنَّ الحُسين رضي الله عنه ما كان مُوَفَّقًا في الخروج رضي الله عنه.
ولذلك كما يقول علماؤنا رحمة الله عليهم وكما قرروه بعد في كتبِ العقيدة من عدم الخروج على وُلَاةِ الأمرِ, وأنَّ ذلك يَجُرُّ من الشر ما يَجُرُّ, وصار ذلك مُدَوَّنًا في كتب العقيدة كما قال شيخ الإسلام في ((مِنهَاج السُّنَّة)) وفي غيره رحمة الله عليه.
فأهل السُّنَّة يقولون: إنَّ حُسينًا رضي الله عنه لمَّا جَدَّ الجِدُّ عَرَضَ عليهم ما عرض، وكان واجبًا عليهم أنْ يُنصفوه رضي الله عنه، فإمَّا أنْ يتركوه لكي يعودَ إلى المدينةِ, وإمَّا أنْ يَدَعُوه حتى يذهب إلى يزيد، وإمَّا أن يدعوه حتى يذهبَ فيُرابطَ في سبيل الله رب العالمين مجاهدًا - وقد أَنْصَفَهُم رضي الله عنه -, ولكن أَبَوا إلا أن يَسْتَأسِرَ لهم, وأَبَى أنْ يُعطِيَ الدَّنِيَّةَ من أمرِهِ, وأنْ يأتيَ الأمرَ الذي فيه المَذَلَّة؛ فَتَأَبَّى عليهم فقتلوه, ومَنَعُوا عنه الماء والماءُ مَبذُول رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن آل البيت أجمعين.
أهل السُّنَّة لا يأخذون بالخُرافات التي نُسِجَت في هذا الموضعِ وفي ذلك الأمرِ، فأهل السُّنَّة يعلمون مُوقِنِينَ أنَّ يزيدَ لم يَأمر بقتل الحسين رضي الله عنه, وأنَّه لمَّا حُمِلَ نَعيُهُ إليهِ استَعبَرَ بَاكِيًا وقال: لَعَنَ اللهُ ابنَ مَرْجَانَةَ - ويقصد بذلك ابنَ زياد، فاستَمْطَرَ عليه لَعَنَات الله ربِّ العالمين - وقال: قد كنت أرضى منهم بما دون ذلك - وهو: قتل الحسين، يعني: كنت أرضى منهم بما دون قَتلِهِ رضي الله تبارك وتعالى عنه -, فما أمر بقتله, ما أمر بقتل الحسين وما رَضِيَ به، وأمَّا الذي نُقِلَ بعد ذلك من تلك الأساطير فشيءٌ قد نَسَجَهُ أهلُ الكذبِ.
ومعلوم أنه لم تُسبَ هاشميةٌ قط، وأمَّا أهل الكذبِ فَيُرَوِّجُونَ في كتبهم أنَّ آل البيت من النساء قد سُبِينَ, وذلك لم يكن قط, ولم تُسبَ هاشميةٌ أبدًا، ولم يحدث من ذلك شيء, بل إنَّهُنَّ لمَّا حُمِلن فدخلن دارَ يزيد علا النُّوَاحُ هنالك في دارِهِ, وأُكْرِمنَ غايةَ الإكرام، وكلُّ الذي نُسج من ذلك إنَّما هو من الخُرافات من خُرافات الروافض.
والروافض لم يأتِ إلى آل البيت شيء يَضُرُّ إلا مِن قِبَلِهِم, وما أُصيبَ آل البيت إلا بسببهم.
وآل البيت هؤلاء الشيعة أسلَمُوهم مرةً ومرةً ومرة، هم الذين خَذَلُوا الحسنَ رضي الله عنه, وهم الذين خَذَلُوا حُسينًا رضي الله عنه, وهم الذين خَذَلُوا زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه, وهم الذين رَفَضُوه وبها سُمُّوا (روافض).
هؤلاء الروافض أخبثُ النَّاس نِحلَةً, وأعظمُ الناس مكرًا, وأجبنُ الناس نفسًا.
هؤلاء الروافض أضرُّ على دينِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى.
هؤلاء الروافض الذين يَدَّعُون الألوهيةَ في علي - بعضهم -.
هؤلاء الروافض الذين يَدَّعُون العِصمَةَ في الأئمة.
هؤلاء الروافض الذين يُكَفِّرُونَ أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول الشعبي عنهم: هم أحمقُ الناس, ولم أرَ قومًا أحمق من الروافض قطُّ، لو كانوا من الدَّواب لكانوا حُمُرًا, ولو كانوا من الطير لكانوا رَخَمًا.
هؤلاء الروافض هم أحمقُ الخَلق؛ لأنهم يأتون بأساطير وبأمورٍ لا يمكن أن تُصَدَّق.
هؤلاء الذين خذلوا حُسينًا رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى قُتِلَ في اليوم العاشر من شهر الله الحرام الذي يُقال له المحرم سَنَةَ إحدى وستين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بكربلاء, أسلموه بعدما استقدموه فاستفزوه حتى أخرجوه ثم انفضُّوا عنهُ فكانوا هباءً كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى، فصار إلى ما صار إليه رضي الله تبارك وتعالى عنه. هؤلاء الروافض يُحيُون النُّواح عليه.
والناس في عاشوراء أضلّ الشيطانُ قسمين كبيرين منهم, وعصمَ اللهُ ربُّ العالمينَ أهلَ السُّنَّة من الوقوع فيما يخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: فقِسمٌ من الناس ينُوحُون ويُحيون النوح والبكاء في هذا اليوم - وهم أولئك الروافض - يأتون بما لا يأتِ به عاقل, فيخرجون وقد عَرَّوا الصدور, وأما النساء فقد نَشَرنَ الشعور يلطمن ويضربن الصدور، وأمَّا الرجال فإنهم يخرجون وقد عروا صدورهم, ويأتون بالسلاسل - وقد جعلوا في أطرافها الشَّفْرَات الدِّقاق - ويضربون بتلك السلاسل صدروهم وظهورهم, وبعضهم يأتي بسيوف وخناجر ويجرحون بها وجوههم ورؤوسهم ويُسيلون الدماء, ويحيون االنَّوحَ والبكاء في هذا اليوم.
ومعلوم أنَّ النِّيَاحةَ من أمرِ الجاهلية, وأنَّ من أكبرِ الذنوب التي يُبارز بها الله رب العالمين النياحة - يعلمون ذلك أو لا يعلمونه! -.
ومن أكبر الذنوب التي يُبارزُ بها اللهُ هو إحياء النِّيَاحةَ والبكاء على المصائب التي مَضَت, فيُحيون ذلك كفعل أهل الجاهلية - وهم الذين خذلوهُ بدءً, وهم الذين أسلفُوه سابقًا -، ثم يخرجون بعد ذلك يقول إمام ضلالتهم الخُميني: إنَّه ما حَفَظَ الإسلام مثلُ البكاء والنوح على سيد الشهداء عليه السلام - كما يقول! -, وما يحدثُ في الحسينيات.
وكَذَب بل إنَّه من أكبر مَعَاولِ الهدم لدين الله ربِّ العالمين, وما أُوتِيَ الإسلامُ في يومٍ من الأيام إلا من قِبَلِهم, فإنَّهم يُوالون كل عدوٍ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام العظيم، وما كانوا في يومٍ من الأيام من حَمَلَةِ الجهاد والسيف في سبيل الله, وإنما تسلُّطهم على أهل السُّنَّة.
يُوالون اليهود، ويُوالون كل باغٍ على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وعلى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وعلى كل سُنِّي, وحقدُهم على أهل السُّنَّة معلوم معلوم.
فهذا قسمٌ من الناس يُحيُون النِّيَاحة كفعلِ أهل الجاهلية - بل أشد -, ويُشمِتُونَ في أهل الإسلام كل أعدائِهِ بما يصنعونَ مما يَتَرَفَّعُ عنه كلُّ صاحب عقل من كلِّ مِلَّةٍ كانت وتكون, ولكن كذلك يصنعون!
فيَتَّخِذُونَ هذا اليوم مَنَاحَة, ويتخذونه عيدًا للحُزن فيفعلونَ فيه ما يفعلون مما هو معلوم.
وطائفةٌ تَبِعُوا قَتَلَةَ الحُسين من النَّوَاصِبِ مِنْ مُبغِضِي آل البيت يتخدون يومَ عاشوراء يومَ فرحٍ ويومَ عيدٍ ويوم سرور, فَيُوَسِّعُونَ فيه على الأولاد, ويضعون الأحاديث في ذلك - وهي مكذوبةٌ على خير العبادِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
ويَدَّعُون كاذبين أنَّ من وَسَّعَ في يوم عاشوراء على أولاده وعلى أهل بيته وَسَّعَ الله ربُّ العالمين عليه عامَّةِ سَنَتِهِ, وهذا كذبٌ مُختَلَقٌ على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ويَدَّعُون أنَّ من تَكَحَّلَ بالإِثْمِدِ فيه لم يرمد إلى غير ذلك من تلك الخرفات التي وضعوها من أجلِ حَضِّ الناس على إظهار الفرح في يوم عاشوراء.
وكثيرٌ من أهل السُّنَّة لا يعلمون منشأ الدعوة إلى الفرح وإظهار الفرح والتَّوسِعَةِ على العِيَال, هذا من فعل النَّواصب من مُبغضي آل البيت الذي يُظهرون الفرحَ في هذا اليوم لمقتل الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن آل البيت أجمعين.
وهَدَى اللهُ أهلَ السُّنَّة للحقِّ للوسطِ في هذا الأمر فيعلمون أنَّ هذا اليوم هو يومٌ صالح نَجَّى اللهُ فيه موسى وقومَهُ من فرعونَ ملأهِ، فصامه موسى شكرًا لله تعالى, وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سَمِعَ ذلك, قال صلى الله عليه وسلم - وما تَلَقَّاه من اليهود لمَّا سألهم, فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم معصومٌ مُؤيدٌ بالوحي صلى الله عليه وسلم فما تلقاه منهم – قال صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم), فصامه صلى الله عليه وسلم.
بل كما قالت عائشة: كان أهل الجاهلية يُعَظِّمونَ اليوم العاشر من شهر الله المحرم, كان أهل الجاهلية يصومونه, وصامه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البَعثة.
يقول العلماء: لَعَلَّ ذلك كان عند أهل الجاهلية قبل البَعثة كأثارةٍ من آثارِ ما تلقَّوه وما بقي فيهم مِنْ شرع مَنْ سبق ومِنْ آثار المِلَّةِ التي سبقت مما كان قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فقالت عائشة كما هو في الصحيح بل في الصحيحين قالت رضي الله عنها: (إنَّ أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء, وكان النبي يصومه صلى الله عليه وسلم، فلمَّا هاجر صلى الله عليه وسلم وجدَ اليهود يصومونه، فسأل فقالوا: هذا يوم صالح نجَّى الله فيه موسى وقومه من فرعون ملأه؛ فصامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه، فقال: (نحن أولى بموسى منكم), فصامه النبي صلى الله عليه وسلم).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم من أمرِهِ كلِّه - حريصًا على مخالفة أهل الكتاب, فقال في العام الذي مات فيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (نحن أولى بموسى منكم), فصامه وأمرَ بصيامه، ثم قال في العام الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم: (لئِنْ عِشتُ إلى قَابل لأصومنَّ التاسع) صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقبض قبل ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وعليه يُحملُ حديث الحَكَمِ بن الأعرج عند مسلمٍ لما سأل ابن عباس عن يوم عاشوراء فقال له: (اعدد من الليالي تِسعًا فإذا أصبحت في يوم التاسع فصُم) وقد سألهُ عن عاشوراء، فقال بعض الناس: إنَّ عاشوراء هو اليوم التاسع من شهر الله المحرم مع أنَّهُ قد صح ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عاشوراء اليوم العاشر), وهو ما يقتضيه اللفظ، فعاشوراء معدُولٌ عن عاشرة؛ للمبالغة والتعظيم كما هو معلوم.
ولكن تخريج العلماء لحديث الحكم بن الأعرج عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وهو حديث صحيح أخرجهُ مسلم في صحيحه لمَّا قال: (اعدد من الليالي تسعًا) - يعني: إذا دخل شهر الله المحرم ثم إذا ما أصبحت فصُم التاسع -, قال العلماء لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في العام الذي مات فيه: (لئِن عِشت إلى قابل لأصومن التاسع), فلم يَعِش صلى الله عليه وعلى آله سلم وقَبَضَهُ الله إليه.
فدَلَّه ابن عباس عن الأمر الذي يَشتبه وعن الأمر الذي يَغمُضُ وعن الأمر الذي يَخفَى على كثيرٍ من الناس لمَّا رآه يسأل عن عاشوراء - وأمرُ عاشوراء معلوم -.
بل إنَّه كان فرضًا قبل أن ينزل فرض الصيام, ثم إنَّه لمَّا فَرَضَ الله رب العالمين صيام شهر رمضان صار بعد ذلك سُنَّةَ من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم فمن شاء صامه ومن لم يشأ لم يصمه.
فالناس يعلمون أنَّ عاشوراء - حتى في الجاهلية - هو اليوم العاشر، فكلام ابن عباس من علمه وفقهه رضي الله عنه؛ لأنَّه يَدُلُّه على الأمر الذي يَغمُض والذي يقع فيه الاشتباه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم التاسع؛ فدله على التاسع, ثم أَمْر العاشر معلوم؛ فدَلَّه على أن يصوم التاسع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعدُ يصوم - كما هو معلوم - اليوم العاشر - وهو عاشوراء - كما يصومه من يصومه من المسلمين.
أهل السُّنَّة في هذا اليوم وَسَطٌ بين الروافض الذين يُقيمون المَنَاحَةَ, يحيون أمور الجاهلية, ويفعلون ما يندى له جبين كل مسلم ينتمي منتسبًا إلى القبلة وإلى دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم, يندى جبينه ممَّا يفعلونه خِزيًا من هذا الذي يأتُونه, وهم منسُوبُون إلى القبلة, ومحسُوبُون على المِلَّة, ولكنهم يفعلون ما يفعلون.
وأهل السُّنَّةِ وسطٌ بين هؤلاء وبين النواصب الذين يُظهرون الفرح في يوم عاشوراء, ويتخذونه عيدًا يُوَسِّعُون فيه على الأهل والأولاد, وليس شيء من ذلك في سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم, وليس شيء من ذلك في فعل أحد من السلف رحمة الله عليهم، وإنما ذلك من البدع المُحدَثة, أحدثه العُبَيدِيُّون بمصر وأظهروا ما أظهروا من أمر النياحة, فكان ذلك أول ظهورٍ لأمر النياحة على الملأ - أَمْرًا عَامًّا - في أيام العُبَيدِيِّن الذين انتسبوا - زُورًا وإفكًا وطُغيانًا - لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي بريئةٌ منهم براءةً كاملة، وإنما جَدُّهم الذي إليه ينتسبون هو ذلك القَدَّاحُ اليهودي فهذا أَصلُهم، فأظهروا ما أظهروا في ديار مصر من ذلك الأمر الشنيع, ثم مازال ذلك يَفشُو حتى صار الناس إلى ما صاروا إليه لما صارت لهم في أيامنا هذه دولة, فهم يصنعون ما يصنعون, ويأتون ما يأتون، والإسلام بريءٌ من هذا الذي يصنعونه، ومن هذا الذي يفعلونه, وهم حربٌ عليه, وهم أشد الناس خُصومة لآل محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وأهل السُّنَّة أولى الناس بآل النبي صلى الله عليه وسلم يُحبونهم ويُقدمونهم ويُوالُونهم ويحترمون آل البيت, وذلك يَتَنَزَّلُ على صالحيهم - على صالحي آل البيت -.
آل البيت يعلمون حقَّ الشيخين وحق أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وما سُمِّيَ الشيعة رافضة إلا لرفضهم زيدَ بن علي, وذلك أنهم لمَّا خرجوا معه قالوا له: عليك أن تتبرأ من أبي بكر وعمر, فامتنع؛ فرفضوه، فقال: رفضتموني؟! فَسُمُّوا رافضةً من يوم إذ.
فهؤلاء الرافضة هم أعداء آل البيت وخذلوه, وهذا من موطن خِذلانهم لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أهل السُّنَّة يعلمون أنَّ اليوم العاشر من شهر الله المحرم يومٌ صالح, وقد نَجَّى الله ربُّ العالمين فيه موسى وقومَهُ مِنْ فرعونَ وملأهِ؛ فصامه موسى شكرًا لله ربِّ العالمين, والنبي أولى بموسى من كلِّ أحد؛ فصامه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم, ورَغَّب في صيام التاسع لكي يخالف أهل الكتاب في صيامهم لهذا اليوم، ولكنه صلى الله عليه وسلم قُبضَ قبل أن يحولَ عليه الحول, ولكن قال ما قال, وصارت سُنَّةً مَسنونةً.
نسأل الله أن يوفقنا لاتِّباع سُنَّةَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم, وأنْ يُجنبنا مواطنَ الزلل والخلل والخَطَل, وأن يجعلنا من أهل السُّنَّة الأَجْلاد الذين يُقيمونَ على ذلك حتى يلقوا ربهم تبارك وتعالى.
ونسأل الله أن يحشرنا في زُمْرَةِ نبيِّنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له هو يتولى الصالحين, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين مُتلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا وأخبر الأمة - كما نَقل عنه ذلك أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: - (إنَّ أفضلَ الصيام بعد رمضان صيامُ شهر الله المحرم, وأفضلَ الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل أو صلاة الليل).
والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر في هذا الحديث - وفي أحاديث ليست في الصحيح ولكنها صحيحة ثابتة -: (أنَّ أفضل الصيام بعد الفريضة صيام شهر الله الذين تدعونه المحرم)، فأفضل الصيام هو الصيام في شهر الله المحرم, وأفضل الصلاة بعد المفروضة ما كان في جَوف الليل الآخر قِيَامًا لله وصَفًّا للأقدام بين يديه.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن فضلِ هذا الشهر - وهو من الأشهر الحرم - شهر الله الحرام الذي تدعونه المحرم، هذا الشهر الصيام فيه خير صيامٍ في العام إلا ما كان فرضًا, فاستثنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهرَ رمضان.
هل هو في صيام الشهر ككل؟
فإنَّ هنالك من الأيام ما هو خير بيقينٍ ولا نزاع في ذلك بل ذلك متفقٌ عليه بين أهل العلم كصيام يوم عرفة، فإنَّ أعظمَ الأيام في شهر الله المحرم هو اليوم العاشر منه, وهو يومِ عاشوراء.
وعند مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ التي مَضَت)، يُكَفِّر ذنوب سَنَةٍ ماضية.
وهذا الحديث له روايات ومنها: (أحتسبُ على الله أنَّه يُكَفِّرُ ذنوبَ السَّنَةِ الماضية), وهذا أيضًا عند مسلمٍ في الصحيح رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ صيام يوم عاشوراء يُكَفِّرُ ذنوب سَنَةٍ مضت, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ صيام يوم عرفة يُكَفِّرُ ذنوب سَنَةٍ خَلَت وذنوبَ سَنَةٍ بَقِيَت؛ فهو أفضل من يوم عاشوراء بلا نزاع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم دَلَّنا على فضل الصيام في شهر الله المحرم بإجمال, ودَلَّنا صلى الله عليه وسلم على فضلِ صيامِ يوم عاشوراء على وجه الخصوص، ثم ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر فقال: (لئِن عشت إلى قابل لأصومن التاسع), فقبضه الله إليه قبل أنْ يأتيَ بذلك صلى الله عليه وسلم.
والعلماء - كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله وتبعه على ذلك ابن حجر كما في ((الفتح)) - قالوا: إنَّ أفضل الصيام في ذلك أن يصوم يومًا قبله ويومًا بعده.
الحديث الذي عند البيهقي في ذلك حديثٌ لا يثبُت فلا يُتخذ حجةً: (صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) هذا غير ثابت, وإن اتكأ عليه ابن القيم رحمه الله في تقرير ما قرر.
ولكن أهل العلم يقولون: يصومُ التاسعَ, ويصومُ العاشرَ, ويصومُ الحاديَ عشر فيصوم يومًا قبله ويصوم يومًا بعده, قال هذا ابن القيم رحمه الله, وتبعه على ذلك ابن الحجر رحمه الله تعالى.
ثم إنَّ المرتبة التي تلي ذلك: أنْ يصومَ التاسعَ والعاشرَ.
قالوا: وأدنى المراتبِ أن يصومَ العاشرَ وحدَه، ولهم في ذلك تخريجات, وأَعْدَلُ ما يُمكن أن يُقبل من تلك التخريجات أنهم يقولون: إنَّ الإنسان قد يُخطأ في إثبات دخول الشهر, فلو صام يومًا قبله وصامَ يومًا بعده لكان مُوَافِقًا للعاشر بلا نزاع ولا خلاف, فهذا كلامٌ قالوه.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أنَّه يصوم التاسع إن عاش, وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخالف أهل الكتاب, فخالفهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا, ودَلَّ المسلمين على أنَّه إن عاش إلى قابل ليصومن التاسع، ثم قُبض صلى الله عليه وسلم, وصار الأمر بعد ذلك من سُننه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فعلى المسلم الحريص على دينه المُتَّبع لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يجتهد في صيام التاسع و العاشر, فإن لم يكن فلا أقلَّ من أن يصوم العاشر؛ فهو يومٌ صالح, وصيامه يُكَفِّرُ به الله ربُّ العالمين ذنوب سَنَةٍ خَلَت.
وتكفير الذنوب كما هو معلوم إنما يقعُ على الصغائرِ دونَ الكبائر.
بل إنَّ بعض أهل العلم يقولون: إن الصغائر ليست في دَرَكَةٍ واحدة وإنما هي دَرَكَات.
فيقولون: (إنَّ الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مُكَفِّرَات لِمَا بينهن ما اجتُنبت الكبائر) فهذا يقع به تكفير للذنوب من تلك الصغائر لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما اجتُنبت الكبائر).
وصحيحٌ أنَّ الذي وَرَدَ في تكفير الذنوب بصيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء ورد مطلقًا بغير قيد (يُكَفِّرُ ذنوب سَنَةٍ مضت وذنوب سَنَة بقيت) في عاشوراء وفي عرفة، فهذا كما ترى مُطلَقٌ بغير قيد, ولكنْ إذا كانت هذه الفرائضُ العظيمة لا تُكَفِّرُ الكبائرَ - ولا بد من إحداث توبة للكبائر حتى تُكَفَّركما قال علماؤنا رحمة الله عليهم -، إذا كانت الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا تُكَفِّرُ إلا الصغائر (مكفرات لما بينهن ما اجتُنبت الكبائر)؛ فصيام يوم من أيام النَّفل لا يمكن أن يكون أعظمَ من هذه الفرائض؛ فيقعُ تكفيرُ الذنوب بصيامه على الكبائر والصغائر.
فلابد من تقييد ما أُطلقَ هنالك على حسب هذا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا يقع على الصغائر.
الصغائر ليست في دَرَكَةٍ واحدة، وهي جميعُها دون الكبائر، ولكن بعضها أغلظُ من بعض, وبعضها أحطُّ من بعض؛ فيقول بعض أهل العلم وعليه يمكن أن يُخَرَّج: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوم عرفة كَفَّرَ اللهُ عنه ذنوبَ سَنَةٍ مَضَت وذنوبَ سَنَةٍ بَقِيَت) لو أنه صام عرفة التي تلي فيقع التكفيرُ على السَّنَةِ التي يستقبلها بصيام يوم عرفة في السَّنَة التي مضت يقعُ التكفير بصيام يوم عرفة مرةً أخرى عليها، فإذا صام يوم عاشوراء وقع التكفير للمرة الثالتة على ذات السَّنة، فيقول العلماء: إنَّ الصغائر ليست في دَرَكَةٍ واحدة, وبعضُها أحط من بعض، فما لم يُكَفَّر بهذا كُفِّرَ بهذا, ويجعلون ذلك على طبقاتٍ في تكفير تلك الصغائر من الصوات الخمس, من الجمعة إلى الجمعة, من رمضان إلى رمضان, بصيام يوم عرفة, بصيام يوم عاشوراء، فالتكفير الذي يقع للذنوب إنما يقع للسيئات - وهي الصغائر -, وأما الكبائر فلابد من التوبة منها.
والله رب العالمينَ لا يجعل ذلك واقعًا على ذلك, وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فرائضَ الإسلام العظيمة من الصيام الواجب كصيام شهر رمضان, وكالصلوات الخمس, وما أوجبه الله علينا من الجُمُعَات, لم يجعل الله تبارك وتعالى ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مُكَفِّرًا للكبائر.
بل إنَّ بعض أهل العلم يقولون: لنا وجهان في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما اجتُنبت الكبائر).
فيقولون: إن التكفير للسيئات للصغائر لا يقع إلا مع اجتناب الكبائر، فأمَّا إذا لم يجتنب الكبائر فإن تكفير الصغائر لا يقع أصلا، فهذا قول من قولين عند أهل العلم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتُنبت الكبائر).
والقول الثاني - وهو المشهور عند جماهير أهل العلم من أهل السُّنَّة: - أنَّ التكفيرَ يقعُ على الصغائر وإن ارتُكبت الكبائر, وأما الكبائر فإنها تحتاج إلى توبةٍ من أَجْلِ أن يغفرها الله رب العالمين، نسأل الله أن يعفو عنا أجمعين.
وأما من لَقِيَ الله ربَّ العالمين بالكبائر من غير توبة فهو إلى المشيئة كما أخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48]. وهذا في حق من مات من غير أن يتوب من الشرك فلَقِيَ الله مشركًا فإنَّ الله لا يغفر له {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.
وأمَّا من لَقِيَ الله ربَّ العالمين بما دون الشرك فهو في المشيئة إن شاء الله رب العالمين غفر له وإن شاء عذَّبه.
وأمَّا الذي يتوب فإنَّ الله رب العالمين يغفر جميع الذنوب بالتوبةِ النصوح بشروطها حتى ولو كان الذنب كفرًا, حتى ولو كان الذنب شركًا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر : 53]، هذا في حق من تابَ ولو كان قد كفر بالله رب العالمين كما في حال بعض من ارتد عن دين الإسلام العظيم بعد موت النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم عاود الإسلام مرة أخرى ثم مازال مجاهدًا في سبيل الله حتى قُتِل, بل إنَّ بعضهم قد تَنَبَّأ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم:
طُليحة بن خويلد: وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم تَنَبَّأ وارتد! بل وغَزَا مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم! فخرج إليه جُند الإسلام البواسلِ من مُقَاتِلَةِ المسلمين من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فَشَرَّدُوه ومن معه كلَّ مُشَرَّدٍ, فما زالت الأرض تَلفِظُه حتى أبعدَ ثم عاود دين الله رب العالمين, وأسلم إلى الله رب العالمين, ومازال مجاهدًا في سبيل الله رب العالمين حتى قُتل في سبيل الله جلَّ وعلا نحسبه كذلك.
والعلماء مختلفون: هل إذا تخللت الرِّدةُ إسلام أحد من المسلمين, وكانت له أعمالٌ صالحة قبل ثم عاود الإسلام بعد الرِّدة, هل يعود له ثواب الأعمال الصالحة التي كانت قبل أن يرتد عن دين الإسلام؟ هل تعود إليه بعد أن عاود دينَ الإسلام العظيم؟
هذا خلافٌ بين أهل العلم تجده مبسوطًا عند علمائِنا الأعلام رحمة الله عليهم, وما هو منك على طَرَفِ البنان تجده في كتاب الصلاة للعلامة ابن القيم رحمه الله.
الحاصلُ: أنَّ صيام يوم عاشوراء من سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل هنالك مراحل لفرض الصيام كما هو معلوم، وكان صوم يوم عاشوراء فرضًا على المسلمين قبل نزول رمضان - يعني: قبل نزول فرض صيام رمضان - كما هو مقررٌ عند علمائنا الأعلام.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يُرسل من يُنادي في الأقوام: (من أصبح منكم صائمًا فليُتمَّ صومه, وأما من أصبح منكم مُفطِرًا فليُمسك)، ثم كان ما كان حتى مع الصبيان، فكانوا يُلَهُّون الصبيان بتلك العرائس التي يصنعونها من العِهْنِ - أي: من الصوف - ثم ما يزال ذلك حتى تغرب الشمس حتى لا يُحِسُّوا بِأَلَمِ الصيام والإمساك عن الطعام والشراب.
ثم لمَّا فَرَضَ الله ربُّ العالمين صيام رمضان لم يَصِر فرضًا على أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم, وإنما هو سُنَّةٌ من سُنن رسول الله, وفيه هذا الفضل العظيم: (إني لأحتسب على الله أن يُكَفِّرَ ذنوبَ سَنَةٍ مضت - أو السَّنَةَ الماضية -).
وكما في حديث أبي قتادة رضي الله تبارك وتعالى عنه عند مسلم رحمه الله أنَّ النبي أخبر أنَّه يُكَفِّرُ ذنوب سَنَةٍ - أي: ذنوب السَّنة التي - مَضَت.
فعلينا أنْ نجتهد في صيامه، وعلينا أنْ نخرج عن الابتداعِ فيه, فلا تَوسِعَةَ على العِيَالِ فيه, فليس مَوسِمًا من مَوَاسِمِ الشرع, ليس هذا بِمَوسِمٍ من مَوَاسِمِ الشرع, بل إنَّ الذي يُوَسِّعُ على العيال فيه يُشابه النواصب من أعداء آل البيت وهو لا يدري! وقد أتى ببدعةٍ في دين الله ربِّ العالمين, فلا تَوسِعَةَ فيه, وإنما التَّعَبُّدُ لله ربِّ العالمينَ فيه بصيامه كما دَلَّنا على ذلك نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ليست فيه صلاة, فهي صلاة مبتدعةٌ وحديثها موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودعاء يوم عاشوراء دعاءٌ مُختَرَعٌ مصنوعٌ أيضًا، وهذه الخُزَعْبَلات التي يأتي بها مَنْ يأتي مِنْ أمثال أولئك الذين يَدُورُونَ في الشوارع من أَجْلِ أنْ يَستَحلِبُوا أموالَ البُلَهَاءِ والسُّذج في هذا اليوم مِنْ أَجْلِ أنْ يؤتوهم ما يؤتونهم من تلك الخزعبلات والخرافات والبدع كل هذا ليس من دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإِحداثُ الحُزن فيه على مقتل الحسين رضي الله تبارك وتعالى عنه شيءٌ تفعله الروافض ولا يفعله أهلُ السُّنة.
والحسين لم يكن أفضلَ من علي, وقد قُتِلَ عليٌّ رضي الله عنه قَتَلَهُ الخوارج فضربه عبد الرحمن بن مُلْجَمٍ فقتلَهُ رضي الله تبارك وتعالى عنه, فَقُتل عليٌّ وهو أفضل من الحُسين بلا خلاف.
بل إنَّ حَسَنًا قد قُتل مسمومًا أيضًا كما هو المُرَجَّحُ عند أهل السُّنة - وإنْ كان يُنازِعُ في ذلك من يُنازِع -؛ لأن بعضَهم من أهل الرفض ومن تبعهم يتهم معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن الصحابة أجمعين بأنَّهُ أرسلَ إليهِ من دَسَّ السُّم عليه أو كان مَوتُه مسمومًا بمعرفة معاوية رضي الله عنه، وهذا كله مما لم يثبت فيه خبر, ومن أخذ به فهو طاعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فحسنٌ رضي الله عنهُ قُتل على الراجح عند أهل العلم مسمومًا كما قُتل عليٌّ رضي الله عنه شهيدًا بل قُتل عثمان - وهو خير من علي - قُتل أيضًا، بل قُتل عمر - وهو خير من عثمان -، فكان ماذا؟!
أكرمهم الله ربُّ العالمين بالشهادة، وكما يقول شيخ الاسلام في ((مِنهاج السُّنة)): إنَّ حسنًا وحُسينًا إنما نشأَ وتَرَبَّيَا وترعرعا في عزِّ الإسلام وفي رَيعَانِهِ, فلم يُعانِيا ما عاناه أهلُهما من السابقين من الجهاد والنُّصرة والهجرة, فأبَى الله ربُّ العالمين إلا أن يُعْظِمَ لهما الأجر وأن يُلحقهما بالسابقين السالفين من آلِهِمَا بالشهادة التي أكرمهما الله بها.
فحسينٌ رضي الله عنه قد قُتِلَ شهيدًا مظلومًا هذا ما نحن عليه.
أهل السُّنة يوقنون يعتقدون أن حسينًا مات شهيدًا مظلومًا, ويُقِرُّونَ أنَّ الخروج على الولاة هو من أعظم ما يجلب الشرور, بل لم يجلب الشرور على أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم شيءٌ هو أعظمُ من الخروج على ولاة الأمور؛ ولذلك في عقائد أهلِ السُّنَّة فلن تجد كتابًا جامعًا في عقائد أهلِ السُّنَّة إلا وفيه تقرير هذا الأمر العظيم، وهو: أنَّ أهلَ السُّنَّة لا يخرجون على ولاة الأمور وإن ضربوا ظهورهم, وأخذوا أموالهم, واستأثروا عليهم، ويعلمون (أنَّ الأمر إنما يأتي من هنا لا يأتي من هنا) كما قال الحسن البصري رحمة الله عليه.
فممَّا ساق الشرور إلى الأمة الخروجُ على ولاة الأمور وإن كانوا جَوَرَة, وإن كانوا ظَلَمَة, وإن كانوا فَسَقَة, وإن كانوا مُستأثرين، بل الذي صار إليه أهلُ السُّنَّة أنَّه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور أو على الحاكمين المُتَغَلِّبين ولو كفروا بالله العلي العظيم إلا عند استكمال العُدَّة ولا عُدَّة.
فلا يجوز عند أهل السُّنَّة الخروج على الحاكم ولو كفر إلا إذا توفرت الشروط: أنْ يأتي بكفرٍ لا نِزاع فيه بين أهل القبلة, أمَّا إنْ كان مُتأولًا فهذا يُكَفِّره بما تَأَوَّلَهُ وهذا لا يُكَفِّره! فهذا ليس بالكفر البَوَاح، إلا أنْ يأتي بكفر بَواحٍ ظاهر لا يختلف فيه أهل العلم من أهل الحل والعقل - لا من طلاب العلم لا كبارًا ولا صغارًا، ولا من أهل العلم الذين لم يتأهلوا للاستنباط من الكتاب والسُّنَّة الذين يُفتون في النوازل! - بل يقضي بذلك أئمتهم من علمائهم الذين يُفتون في النوازل, فهؤلاء يُرجع إليهم هذا الأمر، (إلا أن يأتي بكفر بَوَاحٍ عندك فيه) - عندك - لا أن يُنقل إليك وتقول: حدثني الثقة!
وأهل العصر أكثرهم كَذَبَةٌ؛ عَانَينَا كَذِبَهُم حتى فيمن ينتسب إلى العلم منهم!
ولم نرَ صادقًا إلا من عصمَ الله, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
شيءٌ مزعج أن ترى الكذب يتفشى في أهل العلم ومن ينتمي إلى دين محمد, ويُوهم الناس بأنه يَحملُ العلم الذي لا يحمله من كل خَلَفٍ إلا عُدُولُهُ!!
فلا يُنقلُ إليك وإنما عندك فيه من الله برهان، ثم يأتي شرط خامس قرره أهل السُّنَّة وهو: العُدَّة فأما إذا لم تُستكمل العُدَّة فالخروج فوضى ولا يجوز، ومَنْ قُتل عند ذلك خارجًا فدمُه مُهدر ولا قيمةَ له في ميزان الإسلام العظيم, وأمرهُ إلى الله ربِّ العالمين.
الذين خرجوا من السلف الصالح لم يكونوا خوارج, فَفَارِقٌ بين الخارجِ والخَارجيّ, أمَّا الخوارج فلهم أصول يصدُرون عنها ويتحركون بها.
الحسين رضي الله عنه خرج فلمَّا جَدَّ الجِدُّ خيَّرَهم فلم يُخَيِّرُوه.
عبد الله الزبير خرج أيضًا وقُوتل حتى هدم الحجاج بالمجانيق - نصبها على الجبال حول الكعبة - حتى هدم الكعبة, وقُتل ابن الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أبيه وعن أمه وعن الصحابة أجمعين، قُتل في الحرم رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو من صِغار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وكان أهلًا للخلافة ولكن الخروج شرٌّ.
ولذلك لمَّا أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرجَ تعلق به ابن عباس, فالأمرُ جميع والناس قد بايعوا ليزيد، وهؤلاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم كانوا يَزِنُونَ الأمور, ولكن كان أمر الله قدرًا مقدورًا، والحسين كان أحقَّ بها وأهلها, ولكن قد بُويع ليزيد فانتهى الأمر، فلمَّا خرج الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه ووقع ما وقع من فتح باب الشرِّ الذي لم يُغلق إلى يوم الناس هذا، فما زال الشر يَعظُم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: خرج الحُسين رضي الله عنه ليحسم مادة الشر فما زال الشر يَعظُم إلى يوم الناس هذا, وقُتل مظلومًا شهيدًا, وهو وأخوه سَيِّدا شباب أهل الجنة, وهما ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوقع ما وقع عن اجتهاد منه.
لذلك يقول ابن حجر رحمة الله عليه: وكان الخروج على الولاةِ الظلمة مذهبًا للسلف الصالح أولًا, فلمَّا نَجَمَ أو نتجَ عنه ما نتج قالوا بِسَدِّ هذا الباب.
فمِنْ عقيدة أهل السُّنَّة - التي تجدها مُسَطَّرةً في عقائد الأئمة - منعُ الخروج على ولاة الأمور, وأنَّ ذلك يجلب من الشرور ما هو واقعٌ منظور, وهو معلوم في تاريخ الإسلام.
نسأل الله رب العالمين أن يرضى عن الحسن وعن الحسين، وعن آل البيت أجمعين، وأن يجمعنا معهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه ريحانةُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نُحِبُّه ونُوَالِيه ولا نغلو فيه رضي الله تبارك وتعالى عنه, لم يكن أفضلَ من أبيه, ولا أفضلَ ومن عثمان, ولا أفضلَ من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين, وقُتل شهيدًا مظلومًا أكرمه الله ربُّ العالمين بالشهادة، فكان ماذا؟!
ننصب عليه المناحة كما تفعل الرافضة!!
ويأتونَ بتلك الأفعال الخبيثة القبيحة, وغَلَوا في عليٍّ وبَنِيِه، وكَفَّرُوا الأصحاب رضوان الله عليهم, وسَبُّوا أمهات المؤمنين, هُمُ الخطر فاحذروهم وحذروا منهم, هم الخطر, الخطر الحقيقي على هذه الأمة يبدأ من هؤلاء، لا يبدأ من اليهود ولا من النصارى وإنما منهم، منهم, يبدأ الخطرُ منهم.
ولذلك تعجب العَجَبَ كلَّه لمن لا يعي عقيدة أهل السُّنَّة يدعو إلى التَّقَارب, وهو ليس في النهاية إلا تقريبَ أهل السُّنَّة إلى الروافض!
وأمَّا الآخرون فلا يمكن أن يتقاربوا أبدًا، يُكَفِّرُون الأصحاب, ويَسُبُّونَ أمهات المؤمنين، والذين يتكلمون في العلم ظاهرًا لا يُحَذِّرُون!
وهم الخطر على أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وجناياتهم قد لَطَّخَت صحائف التاريخ فلو تَتَبَّعتها لرأيت العَجَب.
ولم يُؤتَ أهلُ السُّنَّة في يوم من الأيام إلا من قِبَلِهم، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، إمَّا أن يَنصروا أعداءهم عليهم كما فعلوا حتى في أيام شيخ الإسلام رحمه الله, كانوا يعتصمون بقمم الجبال يَعْتَدُون على النساء من أهل السُّنَّة، فيَسْبُون النساء لبيعهن للصليبيين بالساحل، يأخذون نساء المسلمين لبيعهن - لبيعهن وهن حَرَائِر من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم - لبيعهن للصليبيين بالساحل، ولمَّا فَرَغَ الشيخ رحمه الله من أمرِ التتار صَعِدَ إليهم الجبل فاستَنْزَلَهم وأغلظَ عليهم وكان ما كان.
على المسلمين أن يَتَنَبَّهُوا لخطورة هؤلاء, وألا يُشاكلُوهم, وعليهم ألا يُشاكلوا - أعني: أهل السُّنَّة - عليهم ألا يُشاكلوا النَّواصب الذين يُبغضون آل البيت, يتخذون يوم عاشوراء عيدًا ومَوسِمًا! وليس كذلك, إنما هو يوم صالحٌ يصوم فيه المُسلم لله ربِّ العالمين تَقَرُّبًا، يُكَفِّر اللهُ له بصيامه ذنوبَ سَنَةٍ مَضَت بشروط تكفير الذنوب كما هو معلوم.
وأمَّا أن يزيدَ على ذلك فالتَّكَحُلُ فيه, وإظهارُ الفرحِ فيه, وإلباسُ الأهلِ الجديدَ من الثيابِ باتِّخَاذِهِ عيدًا كل ذلك من آثارِ صُنع النواصب من أعداء آل البيت وقَتَلَة الحسين في هذه الأمة مما دَخَلَ بالبدعة على أهلِ السُّنَّة.
نسأل الله أنْ يعفو عنَّا جميعًا وأنْ يرحمنا إنَّه على كل شيء قدير، نسأل الله أنْ يوفقنا لكل خير, وأنْ يهدينا للتي هي أقوم, وأنْ يُقيمنا على ذلك حتى نلقى وجه ربِّنا الكريم.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.